وا حر قلباه ممن قلبه شبم... شرح الجزء الأول من قصيدة المتنبي

3

هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي أبو الطيب الكندي الكوفي المولد، والملقب بأبي الطيب المتنبي، عاش أفضل أيام حياته وأكثرها عطاء في بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب وكان من أعظم شعراء العربية. (من ويكيبيديا)
جئت لكم بقصيدة له، وأشرح معانيها الصعبة بإذن الله.
1.وزن القصيدة:
 بحر البسيط، وإن كنت تريد معرفة معنى بحور الشعر، اقرأ مقال علم العروض.
ومفتاح بحر البسيط:
إن البسيط لديه يبسط الأمل * مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلُ
2. مناسبة القصيدة
حظي المتنبي بمنزلة شريفة لدى سيف الدولة، لكن ذلك لم يعجب حساده ومبغضوه، فأخذوا يوقعون بينه وبين سيف الدولة، فنجحوا في ذلك، فأدرك المتنبي أن القطيعة بينهما قادمة، وقال هذه القصيدة في حضرته، قصيدة يختلط فيها الألم والمدح والعتاب والفخر.
3. نص القصيدة وشرحها



وَا حَرّ قَلْباهُ ممّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ * وَمَنْ بجِسْمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
ما لي أُكَتِّمُ حُبّاً قَدْ بَرَى جَسَدي * وَتَدّعي حُبّ سَيفِ الدّوْلةِ الأُمَمُ
إنْ كَانَ يَجْمَعُنَا حُبٌّ لِغُرّتِهِ * فَلَيْتَ أنّا بِقَدْرِ الحُبّ نَقْتَسِمُ
قد زُرْتُهُ وَسُيُوفُ الهِنْدِ مُغْمَدَةٌ * وَقد نَظَرْتُ إلَيْهِ وَالسّيُوفُ دَمُ
فكانَ أحْسَنَ خَلقِ الله كُلّهِمِ * وَكانَ أحسنَ ما في الأحسَنِ الشّيَمُ
فَوْتُ العَدُوّ الذي يَمّمْتَهُ ظَفَرٌ * في طَيّهِ أسَفٌ في طَيّهِ نِعَمُ
قد نابَ عنكَ شديدُ الخوْفِ وَاصْطنعتْ * لَكَ المَهابَةُ ما لا تَصْنَعُ البُهَمُ
أَلزَمتَ نَفسَكَ شَيئاً لَيسَ يَلزَمُها * أَن لا يُوارِيَهُم أَرضٌ وَلا عَلَمُ
أكُلّمَا رُمْتَ جَيْشاً فانْثَنَى هَرَباً * تَصَرّفَتْ بِكَ في آثَارِهِ الهِمَمُ
عَلَيْكَ هَزْمُهُمُ في كلّ مُعْتَرَكٍ * وَمَا عَلَيْكَ بهِمْ عارٌ إذا انهَزَمُوا
أمَا تَرَى ظَفَراً حُلْواً سِوَى ظَفَرٍ * تَصافَحَتْ فيهِ بِيضُ الهِنْدِ وَاللِّممُ
يا أعدَلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي * فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ
أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صادِقَةً * أن تحسَبَ الشّحمَ فيمن شحمهُ وَرَمُ
وَمَا انْتِفَاعُ أخي الدّنْيَا بِنَاظِرِهِ * إذا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الأنْوارُ وَالظُّلَمُ
سَيعْلَمُ الجَمعُ ممّنْ ضَمّ مَجلِسُنا * بأنّني خَيرُ مَنْ تَسْعَى بهِ قَدَمُ
أنَا الذي نَظَرَ الأعْمَى إلى أدَبي * وَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ
أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا * وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ
وَجاهِلٍ مَدّهُ في جَهْلِهِ ضَحِكي * حَتى أتَتْه يَدٌ فَرّاسَةٌ وَفَمُ
إذا رَأيْتَ نُيُوبَ اللّيْثِ بارِزَةً * فَلا تَظُنّنّ أنّ اللّيْثَ يَبْتَسِمُ
وَمُهْجَةٍ مُهْجَتي من هَمّ صَاحِبها * أدرَكْتُهَا بجَوَادٍ ظَهْرُه حَرَمُ
رِجلاهُ في الرّكضِ رِجلٌ وَاليدانِ يَدٌ * وَفِعْلُهُ مَا تُريدُ الكَفُّ وَالقَدَمُ
وَمُرْهَفٍ سرْتُ بينَ الجَحْفَلَينِ بهِ * حتى ضرَبْتُ وَمَوْجُ المَوْتِ يَلْتَطِمُ
الخَيْلُ وَاللّيْلُ وَالبَيْداءُ تَعرِفُني * وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَمُ
صَحِبْتُ في الفَلَواتِ الوَحشَ منفَرِداً * حتى تَعَجّبَ مني القُورُ وَالأكَمُ
يَا مَنْ يَعِزّ عَلَيْنَا أنْ نُفَارِقَهُمْ * وِجدانُنا كُلَّ شيءٍ بَعدَكمْ عَدَمُ
مَا كانَ أخلَقَنَا مِنكُمْ بتَكرِمَةٍ * لَوْ أنّ أمْرَكُمُ مِن أمرِنَا أمَمُ
إنْ كانَ سَرّكُمُ ما قالَ حاسِدُنَا * فَمَا لجُرْحٍ إذا أرْضاكُمُ ألَمُ
وَبَيْنَنَا لَوْ رَعَيْتُمْ ذاكَ مَعرِفَةٌ * إنّ المَعارِفَ في أهْلِ النُّهَى ذِمَمُ
كم تَطْلُبُونَ لَنَا عَيْباً فيُعجِزُكمْ * وَيَكْرَهُ الله ما تَأتُونَ وَالكَرَمُ
ما أبعدَ العَيبَ والنّقصانَ منْ شرَفي * أنَا الثّرَيّا وَذانِ الشّيبُ وَالهَرَمُ
لَيْتَ الغَمَامَ الذي عندي صَواعِقُهُ * يُزيلُهُنّ إلى مَنْ عِنْدَهُ الدِّيَمُ
أرَى النّوَى يَقتَضيني كلَّ مَرْحَلَةٍ * لا تَسْتَقِلّ بها الوَخّادَةُ الرُّسُمُ
لَئِنْ تَرَكْنَ ضُمَيراً عَنْ مَيامِنِنا * لَيَحْدُثَنّ لمَنْ وَدّعْتُهُمْ نَدَمُ
إذا تَرَحّلْتَ عن قَوْمٍ وَقَد قَدَرُوا * أنْ لا تُفارِقَهُمْ فالرّاحِلونَ هُمُ
شَرُّ البِلادِ مَكانٌ لا صَديقَ بِهِ * وَشَرُّ ما يَكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ
وَشَرُّ ما قَنّصَتْهُ رَاحَتي قَنَصٌ * شُهْبُ البُزاةِ سَواءٌ فيهِ والرَّخَمُ
بأيّ لَفْظٍ تَقُولُ الشّعْرَ زِعْنِفَةٌ * تَجُوزُ عِندَكَ لا عُرْبٌ وَلا عَجَمُ
هَذا عِتابُكَ إلاّ أنّهُ مِقَةٌ * قد ضُمّنَ الدُّرَّ إلاّ أنّهُ كَلِمُ

كما ترون.. القصيدة طويلة، حوالي أربعين بيتا، لذا لن أشرحها في مقال واحد، بل سأقسمها وأشرحها على عدة مقالات إن شاء الله، إذًا بسم الله نبدأ!

1) وَا حَرّ قَلْباهُ ممّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ * وَمَنْ بجِسْمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ

وا حر قلباه: هذا يسمى أسلوب ندبة، يستخدم لتعبير عن التفجع على شيء ما، كأن يقال "وا محمداه" فهو يتفجع على محمد، أو أن يقول "وا رأساه" يعبر عن ألم في رأسه، أو كالجملة الشهيرة لقطز "وا إسلاماه!" 

"وا" هو حرف نداء وندبة، ثم قد يضع القائل ألف الندبة لتأكيد شعوره، وهي الألف التي أضيفت إلى "قلباه"، ثم قد ننتهي بهاء هي هاء السكت.
والشبِمُ هو البارد، والشبَم (بفتح الباء) هو البرد، ونقول "خير الماء الشبِم": أي خير الماء هو الماء البارد، ولكن في البيت "قلبه شبم" لا تعني البارد بالمعنى الحرفي، بل يقصد بالقلب الشبم أي البارد قليل الحس.
والسقم: هو المرض، وسَقِمَ وسَقُمَ (بضم أو فتح القاف) يَسْقُمُ سُقْماً وسَقَماً وسَقاماً وسَقامَةً فهو سقيم أو سَقِمٌ: أي مريض.


فالشاعر بدأ قصيدته يندب حرارة قلبه التي سببها ندمه وتحسره ممن قلبه بارد عديم الحس، ومن سبب له السقم بجسمه وحاله.


2) ما لي أُكَتِّمُ حُبّاً قَدْ بَرَى جَسَدي * وَتَدّعي حُبّ سَيفِ الدّوْلةِ الأُمَمُ


أُكتِّمُ: أي أكتم وأخبئ، لكن تشديد التاء فيه قوة زائدة للفعل، فالفعل "أكتِّم" يعني كتمانا أقوى من "أكتُم". يرجى العلم أن ذلك ليس قاعدة قياسية، فلا تطبقها على كل الأفعال فتشدد حرفا ليدل على قوة الفعل، ليست كل الأفعال كذلك.
برى السهم يَبْرِي بَرْيًا: نحته، وهي يقصد بـ"برى جسدي" أي أنحله بسبب المرض.

ثم يبدأ بالتعبير عن حبه الخالص لسيف الدولة ويتعجب قائلًا: "ما أعجب الأمر! لماذا أكتم حبي الصادق لسيف الدولة، مع أن الأمم تدعي حبه كذبا؟!"


3) إنْ كَانَ يَجْمَعُنَا حُبٌّ لِغُرّتِهِ * فَلَيْتَ أنّا بِقَدْرِ الحُبّ نَقْتَسِمُ


غرة الرجل: طلعته ووجهه،هذا معناها في البيت.
ولكن "غرة" لها معانٍ كثير أخرى، مثلا: غرة الشهر: أوله، وغرة القوم: شريفهم، وغرة النبات: رأسه.


ثم أكد حبه لسيف الدولة قائلا "لو أن حب سيف الدولة يجمع بيني وبين هؤلاء، فليتنا نقتسم عطاياه ومكارمه بقدر حبنا له، لأني أكثر من يحبه بينهم وأصدقهم إخلاصا له، وسأكون أكثر نصيبا منهم في هذه الحالة."


4) قد زُرْتُهُ وَسُيُوفُ الهِنْدِ مُغْمَدَةٌ * وَقد نَظَرْتُ إلَيْهِ وَالسّيُوفُ دَمُ
5) فكانَ أحْسَنَ خَلقِ الله كُلّهِمِ * وَكانَ أحسنَ ما في الأحسَنِ الشِّيَمُ

الغِمْد: غلاف السيف، وغَمَد السيف غَمْدًا وغَمَدًا: أي أدخله في غِمده. وأغمد السيف أيضا بمعنى غمده.
وقد خص سيوف الهند لأن السيوف المصنوعة من حديد الهند كانت معروفة بقوتها، وكان السيف المصنوع من حديد الهند يقال له سيف مُهَنَّد.

والشِّيَمُ: جمع شِيْمَة، وهي الخُلُق.

فهو يقصد في هذا البيت أنه كان مع سيف الدولة وبخدمته وبجانبه في السلم (حيث السيوف مغمدة) والحرب (حيث السيوف في الدم).

ثم قال عنه أنه كان أحسن الناس، وكان أحسن ما فيه شيمه الحسنة، سواء في السلم والحرب.


6) فَوْتُ العَدُوّ الذي يَمّمْتَهُ ظَفَرٌ * في طَيّهِ أسَفٌ في طَيّهِ نِعَمُ

فات عنه يفوت فَوْتًا: أي ذهب عنه.
ويمَّمْتَه تيمُّمًا: أي قصدته، فنحن نقول مثلا "يممه بالرمح" أي قصده تعمدا.

و"يمم" لها معنى آخر، فنحن نقول "يمم المريض للصلاة" أي مسح يديه ووجهه بالتراب.
والظفر: هو النصر، وظَفِرَ الشيء يظْفِره ظَفْرًا: أي ناله وكسبه، وظفر بالشيء أي ناله أيضًا، وظفر على عدوه: أي غلبه. 

فهو يقول لسيف الدولة: "إن فوت العدو الذي فر منك نصر لك في فراره، ولكن في طياته يحمل أسف لعدم بلوغه وقتله، وفي طيات هذا الأسف نِعمة لعدم خسارة دماء جيوشك في الحروب."


7) قد نابَ عنكَ شديدُ الخوْفِ وَاصْطنعتْ * لَكَ المَهابَةُ ما لا تَصْنَعُ البُهَمُ

البُهَمُ: جمع بُهْمَة، ولها معان كثيرة، ولكن معنى بهمة هنا هو الجيش.
"وفي حروبك ينوب عنك في القتال- الخوف الشديد منك، وقد صنعت لك مهابتك ما لم يصنع مهابة أي جيش، فمهابتك أعظم من مهابة الجيوش."


8) أَلزَمتَ نَفسَكَ شَيئاً لَيسَ يَلزَمُها * أَن لا يُوارِيَهُم أَرضٌ وَلا عَلَمُ


يواريهم: يخفيهم ويسترهم، ووارى الكنز: أي أخفاه.

"ألزمت نفسك أن تتبع أعداءك أينما اختبئوا وألا تتركهم، وهذا أمر لا يلزمك."

 
9) أكُلّمَا رُمْتَ جَيْشاً فانْثَنَى هَرَباً * تَصَرّفَتْ بِكَ في آثَارِهِ الهِمَمُ


رام هدفا: أي قصده، ونقول رامَ يروم رَوْمًا ومرامًا
والهمم: جمع هِمَّة وهي العزيمة لفعل أمر.

"أكلما هدفت إلى جيش وطلبته فارتد منهزما هاربا عزمت دفعتك همتك أن تقتفي آثاره للحاق به؟!"


10) عَلَيْكَ هَزْمُهُمُ في كلّ مُعْتَرَكٍ * وَمَا عَلَيْكَ بهِمْ عارٌ إذا انهَزَمُوا

معترك: اسم مكان من الفعل "اعتركواعتركوا أي تقاتلوا وتحاربوا، لذا فالمعترك هو مكان القتال.

"عليك أن تهزمهم في كل ساحة وكل حرب، ولا عار عليك ولا خزي إذا تمكنوا من الهرب والفرار بعد الهزيمة."


11) أمَا تَرَى ظَفَراً حُلْواً سِوَى ظَفَرٍ * تَصافَحَتْ فيهِ بِيضُ الهِنْدِ وَاللِّمَمُ

اللِّمَمُ: جمع لِمّة: وهو شعر يجاوز شحم الأذن، فإذا بلغ المنكبين صار جُمَّةً. وهو غير "اللَّمَم" بفتح اللام والتي تعني صغار الذنوب.

"وهل ترى نصرًا أجمل من ذلك النصر الذي تضرب فيه رءوس أعدائك وتتصافح سيوفك من شعورهم؟" 
ثم سيتحول من المدح إلى العتاب قائلًا:
"يا أعدَلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي * فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ"

وهذا في الجزء الثاني إن شاء الله.

رابط الجزء الثاني>>
رابط الجزء الثالث (على أسلوب القصة)>>
---------
كانت مصادري: المعجم الوسيط ولسان العرب والقاموس المحيط. 

التعليقات

هنا أنت الكاتب، قل ما تريد، كن مهذبا

  1. جزاك الله الف خير

    ردحذف
  2. بارك الله فيك وزادك من فضله

    ردحذف

يُشَغَّلُ من Blogger

تصميم الورشة مع تعديل وتطوير مني