عرفنا في الجزء السابق شرح أول أحد عشر بيتا القصيدة، والآن نكمل شرح الجزء الثاني.
رابط الجزء الأول>>
وإليكم الأبيات التي سأكمل شرحها في هذا الجزء:
يا أعدَلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي * فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ
أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صادِقَةً * أن تحسَبَ الشّحمَ فيمن شحمهُ وَرَمُ
وَمَا انْتِفَاعُ أخي الدّنْيَا بِنَاظِرِهِ * إذا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الأنْوارُ وَالظُّلَمُ
سَيعْلَمُ الجَمعُ ممّنْ ضَمّ مَجلِسُنا * بأنّني خَيرُ مَنْ تَسْعَى بهِ قَدَمُ
أنَا الذي نَظَرَ الأعْمَى إلى أدَبي * وَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ
أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا * وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ
وَجاهِلٍ مَدّهُ في جَهْلِهِ ضَحِكي * حَتى أتَتْه يَدٌ فَرّاسَةٌ وَفَمُ
إذا رَأيْتَ نُيُوبَ اللّيْثِ بارِزَةً * فَلا تَظُنّنّ أنّ اللّيْثَ يَبْتَسِمُ
وَمُهْجَةٍ مُهْجَتي من هَمّ صَاحِبها * أدرَكْتُهَا بجَوَادٍ ظَهْرُه حَرَمُ
رِجلاهُ في الرّكضِ رِجلٌ وَاليدانِ يَدٌ * وَفِعْلُهُ مَا تُريدُ الكَفُّ وَالقَدَمُ
وَمُرْهَفٍ سرْتُ بينَ الجَحْفَلَينِ بهِ * حتى ضرَبْتُ وَمَوْجُ المَوْتِ يَلْتَطِمُ
رابط الجزء الأول>>
12) يا أعدَلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي * فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ
هنا بيت يختلط فيه مدح وذم وعتاب، فمدحه بأنه أعدل الناس، ولكن الذم والعتاب هو أن هذا العدل لا يشمل الشاعر، فيقول لسيف الدولة:
"أنت أعدل الناس إلا إذا عاملتني، فقد حدث خصام بيننا، وأنا لا أستطيع أن أحاكمك لغيرك لأنك ملك، حينها تكون أنت الخصم وأنت الحكم بيننا، فأين العدل إذًا؟!"
13) أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صادِقَةً * أن تحسَبَ الشّحمَ فيمن شحمهُ وَرَمُ
أعاذ الشيء بالله: ألجأه لله وأحصنه به.
أما الهاء في "أعيذها" فهي عائدة على "نظرات"، وقد جاء في تفسير الواحدي لديوان المتنبي:
--"الهاء في أعيذها راجعة إلى النظرات وأجاز مثله الأخفش لأنه أجاز في قوله تعالى فإنها لا تعمى الأبصار أن تكون الهاء عائدةً على الأبصار وغيره من النحويين يقولون أنها إضمار على شريطة التفسير كأنه فسر الهاء بالنظرات"
ونظرات صادقة: أي نظرات تصدقك وتظهر لك الحقيقة ولا تغلط فيما تراه.
والشحم هو السمن، والشحيم هو السمين.
والورم هو النتوء أو الانتفاخ.
إذا ما يقصده:
"أعيذ بالله نظراتك -التي تصدقك دائمًا- أن تخدعك فلا تفرق بيني ومن يتظاهرون بأنهم في مثل فضلي، مثلما أن تخدعك عينك فترى نتوئًا فيظنه شحما وهو مجرد ورم."
14) وَمَا انْتِفَاعُ أخي الدّنْيَا بِنَاظِرِهِ * إذا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الأنْوارُ وَالظُّلَمُ
ناظر المرء: عينه.
والأنوار جمع نور، والظُّلَمُ جمع ظُلْمَة.
ثم يتساءل الشاعر قائلًا: "وما نفع العين للمرء إذا كانت الظلمة والنور بالنسبة له شيئا واحدا، ومستويان عنده في عينه، وكذلك ما فائدة ناظرك (أو عقلك وفكرك) أيها الملك إذا لم تستطع أن تفرق بيني وبين من يدعون مثل فضلي؟"
إذا لاحظت سترى الشاعر تدريجيا يسير نحو الفخر على هؤلاء القوم الذين فضلهم الملك، والآن سيبدأ بالفخر علنا وصراحةً.
15) سَيعْلَمُ الجَمعُ ممّنْ ضَمّ مَجلِسُنا * بأنّني خَيرُ مَنْ تَسْعَى بهِ قَدَمُ
16) أنَا الذي نَظَرَ الأعْمَى إلى أدَبي * وَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ
تسعى القدم: هي مجاز يقصد به مشي القدم.
"كل من في مجلسنا الآن سيعلمون أني خير من تمشي به قدم (يقصد: خير من يمشى على الأرض).
فأنا من بلاغتي ورقي أدبي جعلت الأعمى ينظر إلى أدبي، وجعلت الأصم يسمع كلماتي الفصيحة."
17) أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا * وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ
المِلْءُ: هو ما يأخذه الإناء حتى يمتلئ، فنقول مثلًا "أعطني ملء هذا الإناء، أو ملئين، أو ثلاثة أملاء هذا الإناء." أي مقدار ما يملأ إناءً أو إناءين أو ثلاثة آنية.
تقدير الشطر الأول هو: "أنام نومًا ملء جفوني"، فكلمة "ملء" هي نائب عن مفعول مطلق، لأنها في التقدير تكون نعتًا للمفعول المطلق "نومًا"، أما بعد حذف المفعول المطلق نعربها نائبا عن المفعول المطلق.
المهم بعد هذا الإرباك أن المعنى هو: "أنام نومًا كافيا لملء جفوني...".
وشرَدَت الإبل تَشْرُد شَرْدًا وشرودًا وشِرادًا: أي نفرت وانتشرت وتفرقت، ويقصد بالشوارد أي الأشعار السائرة التي تنتشر بين الناس ويقولها كل الناس، فهي مثل الإبل الشاردة المنتشرة.
وجرَّاها: أي بسببها، والتقدير "من جَرَّائِهَا"، فحذفت الهمزة لتخفيف، وحذف حرف الجر، ولكن لنحذف حرف الجر علينا أن نجعل الكلمة منصوبة لا مجرورة، وهذا يسمَّى المنصوب على نزع الخافض، وهو المنصوب الذي نصبناه لأننا حذفنا حرف الدر منه.
المهم! المعنى هو:
"أنام ونومي يملأ جفوني ويريحها عن أشعاري المنتشرة فأنا أمتلكها بسهولة، أما باقي الناس فيسهرون بسببها ويختصمون عليها حتى يظفروا منها شيئا."
18) وَجاهِلٍ مَدَّهُ في جَهْلِهِ ضَحِكي * حَتى أتَتْه يَدٌ فَرّاسَةٌ وَفَمُ
19) إذا رَأيْتَ نُيُوبَ اللّيْثِ بارِزَةً * فَلا تَظُنّنّ أنّ اللّيْثَ يَبْتَسِمُ
الواو في بداية البيت الأول هي واو رُبَّ، وتأتي لتفيد الاحتمال، ويأتي بعدها اسم مجرور لفظا مرفوع محلا.
"ضحكي" هو فاعل "مدَّه"، لذا فالمعنى هو "مدَّه ضحكي في جهله".
والليث هو الأسد والجمع ليوث.
"ورب جاهل أحمق زاده ضحكي جهلًا وغره واغتر بي، حتى فوجئ بيد وفم تفترسانه!
يشبه ذلك الأسد إذا كشر عن أنيابه وأظهرها، فهو لا يبتسم بل إن نيته الافتراس."
والشاعر يقصد أن يمهل لعدوه حتى يقضي عليه.وقد جاء في شرح الواحدي لديوان المتنبي:
"معنى البيت من قول الطائي: قد قلصت شفتاه من حفيظته، فخُيِّلَ من شدة التعبيس مبتسما"
20) وَمُهْجَةٍ مُهْجَتي من هَمِّ صَاحِبها * أدرَكْتُهَا بجَوَادٍ ظَهْرُه حَرَمُ
المهجة هي الروح، وقد يقال "صعدت مهجته" أي توفي أو يقال "أبذل لوطني مهجتي" أي أبذل حياتي،
والجمع مُهَج.
وهنا يجب أن نعرب الشطر حتى نفهمه. الواو كما قلنا هي الواو التي تأتي بمعنى "رٌبَّ"، "مهجة" مبتدأ مجرور لفظًا (بسبب الواو) مرفوع محلًّا، الهاء في "صاحبها" تعود على المهجة الأولى، والجملة "مُهْجَتي من هَمّ صَاحِبها" كلها في محل خبر.
مربك! أليس كذلك؟ دعك من ذلك الإعراب، المهم أن المعنى هو "ورُبَّ روحٍ تكون مهجتي من هَمِّ صاحب تلك الروح" أي أن روحي تكون أحد هموم مَالِكِ تلك الروح، أي أن مالك تلك الروح يريد قتلي، لذا قال "وَمُهْجَةٍ مُهْجَتي من هَمِّ صَاحِبها" أي أن مهجتي أحد هموم صاحب المهجة.
الجواد: هو النجيب من الخيل، والجمع جِيَاد.
وحَرَمُ الرجل: هو ما يحميه الرجل ويقاتل عنه، والجمع أحرام.
"ورُبَّ روحٍ تكون مهجتي من أحد هموم صاحب تلك الروح، فأدرك وألحق تلك الروح بجواد يحمي من في ظهره من أي خطر، فيكون ظهره حرمًا آمنًا."
21)رِجلاهُ في الرّكضِ رِجلٌ وَاليدانِ يَدٌ * وَفِعْلُهُ مَا تُريدُ الكَفُّ وَالقَدَمُ
"يركض هذا الخيل في حسن مشي واستواء في وقع قوائمه! كأن رجلاه رجل واحد يضعهما ويرفعهما معًا، وكأن يداه يد واحدة يضعهما ويرفعهما معًا. كما أن ما يفعله يغنيني عن استعمال يداي وقدماي، فهو يفعل ما تريد يدي وقدمي."
22) وَمُرْهَفٍ سرْتُ بينَ الجَـحْفَلَينِ بهِ * حتى ضرَبْتُ وَمَوْجُ المَوْتِ يَلْتَطِمُ
المرهف: الرقيق الضعيف، ورهف السيف: رققه، وفي البيت يقصد "رُبَّ سيف ضعيف..."
والجحفل هو الجيش الكثير والجمع جحافل.
"ورُبَّ سيف ضعيف رقيق دخلت به بين الجيشين الكثيرين، وغم أن السيف ضعيف فإني ضربت به الأعناق وأمواج الموت تتدفق وتلتطم."
ثم سيكمل المتنبي الفخر ويقول بيته المشهور "الخيل والليل والبيداء تعرفني..." وهذا بإذن الله في الجزء الثالث والأخير.
رابط الجزء الثالث(على أسلوب القصة)>>
------------
كانت مصادري: المعجم الوسيط ولسان العرب والقاموس المحيط.
أشكركم
ردحذفعلى الرحب، أهلا وسهلا.
حذفجهد مشكور، شرح واضح ووافي ومميز، الله يعطيك العافية، ان شاء الله سيبقى عملك منارا لكثيرين يحاولون فهم هذه الابيات الجميلة
ردحذفأحسنت جزءا جزاكم الله على الشرح الوافي...
ردحذف