كم تظن تبقى لك من العمر؟ الكثير؟ لا زلت شابا؟ حسنا تعال نحسب ما تبقى لك ولنكن الأكثر تفاؤلا بالنسبة لعمرك، لنقل أنك ستعيش 90 عاما -أطال الله عمرك ونفع بك-، وأن سنك اليوم 18 عاما، هذا يعني أنه تبقى لك 72 عاما... أي 864 شهرا. إذا رسمنا كل شهر متبق لك كدائرة، ستكون الصورة هكذا:
ربما خاب ظنك، وليست الشهور المتبقية لك بالكثرة التي ظننتها، ولكن دعني أزد الطين بلة، وأخبرك أن ثلث تلك الشهور ستقضيها نائما، إذ يقضي الإنسان في المتوسط 8 ساعات يوميا نائما، أي ثلث عمره، حينها تكون الصورة هكذا:
ولنقل أنك ستقضي 8 ساعات في اليوم في 5 أيام من الأسبوع في العمل والدراسة حتى عمر الستين، هذا سيخصم من عمرك 126 شهرا تقريبا، فتكون الصورة هكذا
بدأ العمر يبدو أقل مما ظننت، لله در شوقي حينما قال:
دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ * إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني
فَاِرفَع لِنَفسِكَ بَعدَ مَوتِكَ ذِكرَها * فَالذِكرُ لِلإِنسانِ عُمرٌ ثاني
لنكمل ولنقل أنك تقضي نصف ساعة في اليوم في المواصلات في المتوسط، هكذا نخصم 18 شهرا. لنخصم 36 شهرا للطبخ والأكل، و36 شهرا للأعمال الروتينية كتنظيف البيت ونحوه، ونخصم 27 شهرا للاستحمام والنظافة وقضاء الحاجة، ستكون الصورة هكذا:
تبقت لك شهور 334 كوقت فراغ، هذا الوقت هو ما ستفعل فيه كل شيء آخر، ستمارس هواياتك، ستصلي وتقرأ وتحفظ القرآن، ستتنزه وتسافر، ستقرأ كتبا وتثقف نفسك، ستشاهد مباريات وأفلاما ومسلسلات وأغاني، ستطور من نفسك وتتعلم أشياء جديدة، ستفتح مواقع التواصل الاجتماعي، كل تلك النشاطات ليس لها وقت إلا ما تبقى، وهو 334 شهرا، هذا هو الوقت الذي سيميزك عن زملائك ويحدد من تكون في مجتمعك، سيحدد شخصيتك، سيحدد مستقبلك، فمثلا: ما فرَّق بين مارك زوكربرج وزملائه هو ليس طريقة استغلاله لوقت الدراسة والعمل (فهم في ذلك سواء تقريبا)، بل طريقة استغلاله لوقت فراغه. على سيرة مارك زوكربرج، كم تظن من ذلك الوقت سيذهب لمواقع التواصل الاجتماعي وأمام الشاشة؟
حسب هذه الإحصائية، يقضي الشباب ما يقرب من 8 - 9 ساعات يوميا أمام شاشة، أي ما يقرب من 312 شهرا من عمرك، وليت هذا الوقت أمام الشاشة مستثمر أو مستغل، إذ يذهب أغلبه في مشاهدة الفيديوهات واللعب ومواقع التواصل الاجتماعي...
هذا سيجعل صورة عمرك هكذا:
ولكن كيف حدث كل هذا؟ كيف استطاعت مواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب سحب كل هذا الوقت منا؟ هل الشباب أغبياء؟
الحقيقة أن ما حدث ليس صدفة ولكنه بفعل فاعل! مواقع التواصل الاجتماعي تتصارع معا وتتنافس على وقتك، وكلما قضيت وقتا أكثر عليها كان هذا نجاحا أكبر لهم. لفعل ذلك عليهم أن يجمعوا عنك كل ما يتاح لهم من معلومات لمعرفة نقاط ضعفك والتركيز عليها واستغلالها. فمثلا: لنقل إن لدي موقع تقضي عليه وقتا وأنا أعرف أن أحد نقاط ضعفك هي الغضب، لأجعلك تقضي وقتا أكثر عندي سأعرض لك منشورات تغضبك، هذا سيجعلك تغضب وتتفاعل مع تلك المنشورات، وتنظر للتعليقات وتتفاعل معها هي الأخرى لأنك غاضب، وبهذا أكون قد ربحت وقتك دون أن تدري.
ولكن كيف تعرف مواقع التواصل الاجتماعي نقاط ضعفنا؟ الإجابة ببساطة هي أنهم يجمعون كل ما يسنح لهم من معلومات عنك، ويستخدمونها لمعرفة شخصيتك وتوقع رد فعلك، عن طريق تحليل تلك المعلومات بالذكاء الاصطناعي، فمثلا: سيجمع الفيسبوك: ما المنشورات التي تفاعلت معها؟ ما المنشورات التي لم تتفاعل معها؟ كم المدة التي قضيتها أمام كل منشور قبل أن تمرره للأعلى؟ ما المنشورات التي تقضي أمامها وقتا؟ وما المنشورات التي تمررها بسرعة؟ ما المنشورات التي نظرت لتعليقاتها وما المنشورات التي لم تنظر لتعليقاتها؟ ما المنشورات التي علقت عليها؟ مع أي الأشخاص تتفاعل وتعلق؟ ما نوع المنشورات التي تحبها وتجعلك تقضي وقتا أكثر، كوميدي أم حزين أم عاطفي أم ديني أم علمي؟ بعد أن ترى منشورا يغضبك، هل تحب رؤية منشور كوميدي بعده أم منشور مغضب آخر أم منشور كلاسيكي عادي؟ ما نوع المنشورات التي تجعلك تغلق الموقع؟ ... ونحو ذلك.
يمكنك أن ترى تلك المتابعة عمليا عندما تنسخ رابط منشور. عندما تفعل ذلك، ستجد الرابط طويلا جدا ومتبعا بالكثير من الأرقام والحروف الزائدة، هذا التسلسل غرضه تمييز الرابط الذي نسخته عن باقي الروابط، فعندما ترسل الرابط لشخص ما ويضغط عليه سيعلم الفيسبوك أن هذا الشخص دخل من رابط أنت الذي أرسلته، وبالتالي سيعلم أن لكما طريقة تواصل خارج الفيسبوك.
هذا رابط منشور عشوائي من حسابي على فيسبوك، الأجزاء بالأزرق ضرورية ويتلف الرابط بدونها، الأجزاء بالأحمر ليست ضرورية (زائدة) ويستعملها الفيسبوك حتى يعلم أني أرسلت الرابط لأحدهم. |
هذه المعلومات التي يجمعها عندما تفتح الموقع من الويب (المتصفح)، أما عند تثبيت التطبيق تسنح للتطبيق معلومات أكثر: أين تسكن؟ أين تذهب كل صباح؟ مع من تجلس (إذا كان صديقك أيضا ثبت التطبيق)؟ عندما تحدثتما، عن أي شيء بحث صديقك (إذ على الأرجح سيبحث عن شيء له علاقة بما تتحدثون عنه)؟ ما نوع الإشعارات التي فتحتها فورا؟ وما نوع الإشعارات التي أجلت فتحها؟ متى تقريبا يجب إرسال إشعارات إليك حتى تفتح التطبيق؟ ما ميل الجهاز أثناء فتح التطبيق (هل تفتحه نائما أم جالسا)؟ متى تخلد إلى النوم؟ كما توجد اتهامات -غير مثبتة وغير مرجحة- بأنه يستخدم الكاميرا لمعرفة تعبيرات وجهك بعد رؤية كل منشور... وغيرها من المعلومات التي لا يمكن جمعها من الاستخدام عبر الويب ولكنها تتوفر له عند الاستخدام عبر الهاتف الذكي.
الوقت الذي يقضيه الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي يزيد كل عام بفضل تحليل بيانات الاستخدام بالذكاء الاصطناعي وتوظيفها لجذب المستخدم وقتا أكثر |
بعد معرفة كل تلك المعلومات عنك -وأكثر- سيستطيع الموقع أن يجعلك لا تغلقه! بكل بساطة هو صار يعرف عنك أكثر مما تظن، يعرف ما نوع المنشورات التي يجب أن يعرضها عليك حتى لا تغلق الموقع، وبتحليل بياناتك وبيانات ملايين من الأشخاص مشابهين لشخصيتك بالذكاء الاصطناعي سيعرف نقاط ضعفك وسيستطيع توقع رد فعلك بعد رؤيتك لكل منشور، ما سيجعلك تقضي وقتا أكثر.. وهذا هو الهدف الأساسي لكل منصة على النت، أن تجذبك لوقت أكثر، وتتنافس فيما بينها؛ من يستطيع سلب وقت أكثر من حياتك، بل إنهم يعدون النوم منافسا لهم لأنه يأخذ منك 8 ساعات يوميا!
أكبر منافسينا هم الفيسبوك واليوتيوب والنوم
-رييد هاستنج، رئيس منصة Netflix
ولماذا تريد تلك المنصات معرفتك ومعرفة نقاط ضعفك؟ الإجابة بكل بساطة: الإعلانات! بعد معرفة شخصيتك بكل تفاصيلها تستطيع تلك المنصات توجيهك لشراء منتج ما أو تغيير رأيك في قضية أو حتى... اقترب حتى أهمس لك... أو حتى دعم مرشح معين! للمزيد اقرأ فضيحة بيانات فيسبوك وكامبريدج أناليتيكا 2018.
إن لم تدفع ثمن السلعة فاعلم أنك السلعة
بجمع المعلومات عنك تعرف نقطة ضعفك، فتجعلك تقضي وقتا أكثر، مما يجعلها تجمع معلومات أكثر، فتعرف عنك أكثر، ونستمر في حلقة ارتجاع إيجابية لا تنتهي! لمواقع التواصل الاجتماعي تأثيرات أخرى مثل فقد القدرة على التركيز (تحدثت عنه في مقال سابق) والإصابة بالأمراض النفسية.
فتح مواقع التواصل الاجتماعي يتحول لحلقة مفرغة تقوي نفسها |
أنا لا أقول اهجر تلك المواقع تماما، فتلك المواقع قد تكون مفيدة لك وقد تبني لك علاقات اجتماعية جيدة، وقد تكون وسيلة تغيير اجتماعي محمود وطريقة لتوجيه الرأي العام تجاه قضية، ولكن إذا عرضت عليك شراء قطعة حلوى مقابل دولار ونفس القطعة مقابل 10 دولارات فالصفقة الأولى عادلة والثانية خاسرة لك. وكذلك تستطيع الحصول على نفس القيمة والفائدة التي تحصل عليها من مواقع التواصل الاجتماعي مقابل وقت أقل بكثير عليها! فاجعل الصفقة بينك وبين تلك المواقع صفقة عادلة -أو ربما مربحة لك وخاسرة لهم- لا صفقة خاسرة لك.
فلا تقتلك شهوته وزنها * كما تزن الطعام أو الشرابا
بعد أن تقضي وقتا أقل عليها ستكتشف أنك كنت تملك الكثير من وقت الفراغ لكنك لم تستفد منه، ولكن تذكر أن المبالغة في عتاب النفس هي الأخرى غير محمودة وقد تصيبك بالاكتئاب أو تدخلك في وسواس مبالغ فيه، فرفقا على نفسك، وإذا حاولت استغلال وقتك ولم تنجح فقم وحاول مجددا بطريقة جديدة وبنفس راضية متفائلة دون القسوة على نفسك وتعنيفها، جرب التسجيل والمتابعة على الورق، جرب إخبار شريك لك أن يتابعك، جرب تطبيقات المتابعة والتسجيل، جرب كل الطرق دون يأس أو تعنيف مبالغ فيه، وزِن القسوة النفس كما تزن الحنان عليها.
جرب مثلا استغلال وقت المواصلات بالاستماع للبودكاست، وجدتها طريقة ممتعة لاستغلال الوقت عندما لا يكون من السهل القراءة
وأختم المقال بحديث شريف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
نِعْمَتانِ مَغْبُونٌ فِيهِما كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ
ملاحظات المؤلف:
- صورة الدوائر من فيديو على Ted-x.
- شاهد هذا الفيديو للدحيح لمزيد من المعلومات عن كيفية جمع المعلومات عنك بأسلوب مبسط وممتع.
التعليقات:
إرسال تعليق
هنا أنت الكاتب، قل ما تريد، كن مهذبا