ما الذي يفعله استخدام الإنترنت في أدمغتنا؟

4


عزيزي القارئ، متى آخر مرة قرأت فيها كتابا كاملا؟ أو متى آخر مرة قرات فيها مقالا طويلا؟ هل تجد صعوبة في الصبر على قراءة مقال طويل أو كتاب؟ هل تجد صعوبة في الحفاظ على تركيزك في محاضرة طويلة؟
أنت لست لوحدك. هذه المشكلة -على ما يبدو- صارت شائعة بين الناس. يعرب الناس عن عدم القدرة على تحمل قراءة كتاب. بمجرد أن تبدأ بقراءة فقرة أو حتى صفحة يجد الشخص نفسه غير قادر تحملا لقراءة الكتاب، غير قادر على الحفاظ على التركيز عليه لفترة طويلة، يبحث عن شيء آخر ليفعله، يشعر بشعور غير مريح يمنعه من إكمال قراءة الكتاب، صارت قراءة الكتاب شيئا صعبا للغاية!

نيكولاس كار Nicholas Carr في مقاله الشهير بعنوان "هل يجعلنا جوجل أغبياء؟!  (Is google making us stupid)" يضع الكاتب تفسيرا متوقعا لهذه الظاهرة ويقول أن التفسير ربما يكون استخدام الإنترنت! برغم عنوان المقال الذي يظهر كأنه يهاجم جوجل فإنه مقال عام ويوضح تأثير النت على أدمغتنا بشكل عام. يوضح الكاتب أنه يلاحظ أن دماغه لم تعد كما كانت قبل أن يبدأ استخدام الإنترنت، يبدو أن النت قد غير شيئا في دماغه.
"أشعر بشعور غير مريح بأن شيئا أو شخصا قد شوه عقلي، ...، أشعر بهذا الإحساس بقوة عندما أبدأ بالقراءة. تكريس نفسي لقراءة كتاب أو مقال طويل كان شيئا سهلا. كان دماغي يؤسر في القصة أو في منعطفات النقاش. كان يمكن أن أقضي ساعات متجولا في امتدادات طويلة من النثر. الحال الآن لم يعد كذا إلا نادرا. تركيزي يبدأ في الانحراف بعد صفحتين أو ثلاثة. أشعر بالضيق والتململ، أفقد التسلسل وأبدأ بالبحث عن شيء آخر أفعله. أشعر ويكأني أشد دائما عقلي المضطرب إلى النص مجددا. القراءة العميقة -التي كانت في العادة شيئا طبيعيا- قد صارت صراعا!"
نيكولاس كار- هل يجعلنا Google أغبياء؟
يرجح الكاتب أن سبب حدوث ذلك هو استخدام النت، قبل أن نشرح سبب ترجيح ذلك دعوني أحدثكم قليلا عن مرونة العقل البشري.
في تجربة أجريت على سائقي تاكسي أصحاء ومرخصين بلندن، فُحصت أدمغتهم لاستكشاف ما إذا كانت خبرات تنقلهم ستؤدي لتغيرات بنائية في أمخاخهم بالمقارنة بأصحاء غير سائقين أم لا. لاحظ الباحثون زيادة كبيرة في حجم المادة الرمادية Gray matter في قرن آمون (الحصين) الخلفي Posterior hippocampus مقارنة بأمخاخ الأصحاء غير السائقين. لاحظ المؤلفون بحثا آخر يوضح أن هذا الجزء من الدماغ مهم لاستدعاء الذاكرة البصرية الفراغية. (المصدر)

هذا ما أريد إيصاله، المخ قد تغير تركيبه الفيزيائي وتحول بنيانه بشكل ما ليناسب نوع النشاط الذي يمارسه السائق. السائق يحتاج إلى بناء خريطة فراغية متخيلة عن المدينة بأكملها حتى يعلم الطريق، أي يحتاج إلى الذاكرة البصرية الفراغية. احتياجه لهذه المهارة باستمرار جعل المخ يتغير، ليس وظيفيا فقط بل وتركيبيا حتى يناسب نوع النشاط الذهني الذي يفعله السائق، وهذا ما يسمى مرونة المخ Brain plasticity.
ما ذكرته هو مثال واحد فقط لهذه المرونة، لكن مرونة المخ قد تلاحظها في أشياء كثيرة، الأعمى مثلا إن قلت له "مرحبا، أنا قيس." ثم انتهى اللقاء، ثم إن سمع صوتك مجددا بمكان آخر لربما عرف أنك قيس! ربما تتعجب، فأنت لا تستطيع تذكر شخص من مرة واحدة تسمع فيها صوته، لكن دماغه غير دماغك. تغير مخه تركيبيا بحيث يناسب نوع الحاسة التي يعتمد عليها، وهذه مرونة المخ.
المخ مرن  للغاية وبلا حدود، اعتاد الناس على الظن بأن شبكتنا العقلية -المكونة من 100 مليار (أو نحو ذلك) من الخلايا العصبية داخل جماجمنا- مثبتة ومتينة منذ وصلنا عمر البلوغ، لكن الباحثين في مجال الدماغ اكتشفوا أن هذه ليست الحقيقة.
نيكولاس كار- هل يجعلنا Google أغبياء؟

لنعد الآن لقضية القراءة والإنترنت. الإنترنت يجب أن يكون قد غير شيئا في المخ، وغير الطريقة التي نفكر بها عن السابق، هذا حتمي. نحن نتحدث عن التقنية الأكثر انتشارا والأكثر تأثيرا على حياة البشر. المخ سيتكيف وسيتغير ليناسب استخدام هذه التقنية، لذا لا بد أن يكون للنت تأثير في طريقة تفكيرنا.
 يقول الكاتب أنه لاحظ صعوبة غامضة في التركيز على كتاب أو مقال طويل بعد أن بدأ استخدام الإنترنت، ويقول أنه ليس وحده، بل سأل بعض زملائه وأصدقائه وأعربوا عن نفس المشكلة عندما صاروا يستخدمون النت. النت المليء بالمشتتات والنوافذ المنبثقة والروابط يجعل التفكير مشتتا. وفرة المعلومات على النت بعثرت تركيزنا بين كل تلك المصادر. مستخدمو النت يقفزون بين موضوع وآخر ويتنقلون بن المقالات والمصادر ولا يعودون للمصدر الذي فتحوه من قبل. وجود لإعلانات والنوافذ المنبثقة بالمواقع يشتت الدماغ ويصرفه عن المحتوى الأصلي الذي يقرؤه. وصول رسالة جديدة وسماع ورؤية إشعاراتها يشتت المخ أيضا عن المصدر الذي يقرؤه. كل هذه الأمور تبعثر تركيز الدماغ وتجعله غير قادر على التركيز على موضوع واحد.

تخيل مثلا أنك تقرأ مقالا عن تاريخ الحديد، فيصلك إشعار برسالة من صديقك، تفتح الرسالة فتجد بها صورة ظريفة، حتما عليك أن تشارك هذه الصورة مع أصدقائك، تفتح فيسبوك لمشاركة الصورة، ثم تتصفح آخر الأخبار بسرعة، لتجد مقطعا لباندا يهاجم طفلا، فتذهب لمقال آخر يتحدث عن السلوك العنيف للباندا!
أنظر بداية ونهاية هذه القصة، هذا هو الإنترنت! هذا حال ثلاث دقائق على الإنترنت! هذا السلوك من التنقل بين المواضيع يعود أذهاننا على عدم القدرة على التركيز على موضوع واحد.

تطبيقا لما علمناه عن مرونة المخ، سيحاول المخ التكيف نوع النشاط الجديد هذا. قبل استخدام النت كان الناس يقرءون كتابا ما، واضعين تركيزهم في شيء واحد لفترة طويلة، ولكن بعد أن بدءوا استخدام النت صار الأمر مختلفا؛ الكثير من المشتتات والروابط التي جعلت المخ يحتاج للتكيف مع هذا النوع من القراءة، القراءة التي تحتاج إلى التنقل بين المواضيع وعدم إبقاء التركيز على موضوع واحد. سيصبح المخ قادرا على استيعاب قطع صغيرة من المعلومات تحتاج لفترة قصيرة من التركيز، ولن يبقى قادرا على إبقاء التركيز على موضوع واحد.
يزيد الطين بلة محاولة الأنواع الأخرى من الإعلام التكيف مع النوع الجديد من القراء لإرضائهم. بينما صار الناس غائصين في لحاف الإنترنت، صارت باقي وسائل الإعلام التقليدية مضطرة إلى التكيف مع هذا الجمهور الجديد. القنوات التلفزيونية أضافت النصوص الزاحفة والإعلانات المنبثقة إلى شاشاتها لملاءمة الجمهور. الجرائد والمجالات قصرت مقالاتها وأضافت الكثير من الكبسولات الملخصة للمقال، وزاحمت المقال بالكثير من القصاصات القصيرة سهلة التصفح.


ماذا عن مدمني مواقع التواصل الاجتماعي؟! ربما تكون هذه المواقع كارثة مغيرة لطريقة تفكيرنا. أثناء تصفح الشخص لأخبار فيسبوك أو تصفحه لمقاطع اليوتيوب فإنه يتنقل بين موضوع وآخر بسرعة كبيرة. المنشورات قصيرة جدا ولكن عقلك عليه أن يتنقل بين هذه الجرعات من المعلومات بسرعة، وأن يتمكن من التركيز فيها. سيحاول المخ التلاؤم مع هذا النوع الجديد من النشاط، فتجده قادرا على التنقل بين المواضيع المختلفة بسرعة كبيرة، ولكن هذا يأتي بثمن باهظ؛ لن يتمكن من التركيز على موضوع واحد فقط لفترة طويلة. عندما تحاول قراءة كتاب سيكون هذا النشاط هو النوع الجديد. ستجد الأمر مرهقا ومملا، لأن المخ يتوقع أن يتنقل إلى موضوع آخر. يظهر هذا التأثير أيضا عندما تحضر محاضرة، فتجد أنك غير قادر على التركيز على موضوع المحاضرة لفترة طويلة، لأن المخ تكيف مع النشاط الذي تفعله بكثرة وهو التنقل بين المواضيع على فيسبوك ويوتيوب وتويتر وغيرها.

ربما يأتي أحد ويظن أن ذلك جيد. ربما يرى أن قدرتنا على التنقل بين المواضيع شيء جيد، ولكن الحقيقة غير ذلك؛ قراءتنا السطحية للمواضيع وفقداننا القدرة على الانتباه إلى موضوع محدد وانعدام القراءة العميقة جعلتنا تفكيرنا ضحلا.
ثراء أفكارنا وذاكراتنا وشخصياتنا يستند إلى قدرتنا عل تركيز عقولنا وإدامة الانتباه. فقط ععندما نولي الانتباه العميق للمعلومة الجديدة- يمكننا أن "نربطها بنظام وبشكل ذو مغزى بالمعرفة التي رسخت جيدا بالفعل في أذهاننا،" كتبها عالم الأعصاب الحائز على جازة نوبل- إيريك كانديل
من مقال هل يجعلنا الإنترنت أغبى؟ (Does the Internet Make You Dumber) لنفس الكاتب نيكولاس كار
التفكير العميق والقراءة العميقة هي التي تصنع الفكر العظيمة، هي التي تجعلنا نربط المعلومات ببعضها جيدا حتى نستفيد منها، أما التفكير السطحي والقراءة الضحلة فهما غير مفيدين إطلاقا. المنشورات القصيرة والمقاطع السطحية تملأ أذهاننا بالفكر المفككة غير المترابطة والتي لن تغيرنا ولن نستفيد منها.
أريد التنبيه إلى أن ما كتبته في هذه السطور هو محاولة من الكاتب لتفسير الظاهرة وليس أمرا حتميا. ذكر الكاتب عدة تجارب ودراسات تؤيد رأيه في مقاله الثاني (هل الإنترنت يجعلك أغبى؟ does the internet make you dumber) وفي كتابه (المياه الضحلة: ماذا يفعل الإنترنت بأدمغتنا The shallows: what internet is doing to our brains)، وهذا يقوي وجهة نظره ويرجحها أكثر، ومع ذلك نحتاج المزيد من البحث والتحريات لتأكيد هذا الكلام. إنما هذا المقال لتحذيرك من خطر متحمل مواقع التواصل الاجتماعي ولعرض الفكرة المرجحة والتي لاقت قبولا بين الناس.

القراءة العميقة للكتب هي التي قد تفيدنا وليس المعلومات السطحية على مواقع التواصل الاجتماعي.
بالنسبة لمواقع التواصل الاجتماعي فالأفضل ترك إدمانها وعدم فتحها إلا قليلا وبوقت محدود وحازم جدا. اتخذ لك يوما في الأسبوع تستريح فيه من جميع مواقع التواصل الاجتماعي. اترك مواقع التواصل الاجتماعي ولا تخدع نفسك بأنك تستفيد منها. كل ما تستفيده من هذه المواقع هو معلومات سطحية جدا لن تتمكن من الاستفادة منها أبدا ولن ترتبط بباقي المعرفة في عقلك الباطن، على عكس القراءة العميقة لموضوع واحد والتي تربط معلوماتك ومعارفك معا لتنمي خيالك وإبداعك وتثري فكرك.
لا تشاهد الدحيح، بل شاهد مصادره.
أما بالنسبة لمقالات الإنترنت؛ أنا لا أقول توقفوا عن تصفح الإنترنت، ولكن استخدموه بحكمة وبلا إفراط بحيث لا يؤثر على أدمغتكم بشكل سيء. خذ قسطا من الوقت كل يوم تستريح فيه، استرح من كل تلك المشتتات، اترك بريدك ورسائلك جانبا، استرخ وركز على موضوع واحد. رسائلك والمنشورات المهمة لن تختفي عندما تعود. إذا كنت لا زلت ترى التركيز أمرا صعبا فابدأ بالتركيز على شيء ممتع؛ ارسم لوحة مثلا أو تعلم العزف على آلة أو اقرأ رواية. هذه الأنشطة الممتعة ستعودك قليلا على تجنب التشتيت وعلى استدامة التركيز وفي ذات الوقت لن تمل منها. لا أضمن لك أن تجعلك هذه الأنشطة تستعيد انتباهك وتركيزك فأنا لم أجرب، ولكنها مجرد محاولة لإعادة ذهنك إلى التركيز مجددا وإبعاده عن التشتت.

هذا رابط المقال المشار إليه، ملحقا بالمقال الثاني لنيكولاس كار، أنصحكم بشدة أن تقرءوه إلى نهايته.
هذا رابط مقطع فيديو قصير وملخص يوضح الأمر ببساطة، بالطبع لا أنصح بمشاهدته لما قلته إليكم بالأعلى، لكن ميزته هو أنه مترجم للعربية إذا كنت غير قادر على قراءة المقال الأصلي بالإنجليزية.
هذا رابط مقطع فيديو لكلمة من المؤلف نيكولاس كار يوضح تأثير الإنترنت على الدماغ، أنصح بمشاهدته.
وفقكم الله.

التعليقات

هنا أنت الكاتب، قل ما تريد، كن مهذبا

  1. انا اعتقد ام الموضوع صحيح، كنت اقرا ووارسم كثيرا، و لكن الان لا استطيع قضاء ١٠ دقائق بلا تشتت او تصفح، مقال جميل و مفيد، و شيق لدرجة انى قراته للنهاية!
    شكرا

    ردحذف
  2. شكرا على المقالة استفدت منها كثيرا

    ردحذف

يُشَغَّلُ من Blogger

تصميم الورشة مع تعديل وتطوير مني