كيف تلقي درسا جيدا؟ (النصائح العامة للتدريس)


قال لي أحد زملائي يوما "يجب على المحاضرين بكلية الطب أن يُختبر أسلوبهم في الشرح قبل السماح لهم بإلقاء محاضرة على الطلاب". ربما تراها فكرة جيدة، ولكن أنصحك أن تعيد التفكير..
إذا فكرنا في الأمر سنجد أنا إذا طبقنا هذه الطريقة فلن يُقبِل أي إنسان على التدريس لأنه ربما يفشل في "اختبار إيصال المعلومة"، وبهذا تضيع كل سنوات دراسته.
هذا.. هذا إذا علمنا كيف نجري "اختبار إيصال المعلومة" بالضبط!
هذا جعلني أفكر مرارا في حل لهذا المعضلة، وهو ليس الحل الذي يمنع غير الأكفاء من الشرح، بل الحل الذي يجعل من غير الأكفاء أكفاء. لحل هذه المعضلة علينا أن نبذل قصارى جهدنا للإجابة على سؤال واحد: 
كيف نصنع أسلوب شرح جيد؟
نعم، إذا أجبنا عن هذا السؤال وعرفنا السر الذي يجعل الشرح جيدا فلن نطرد مدرسا لكونه لا يعجب طلابه، فقط سنعلمه كيف يجعل أسلوب شرحه جيدا، ولكن المشكلة: كيف سنجيب عن هذا السؤال؟ الأمر معقد، عندما تسأل شخصا لمَ أعجبه شرح فلان فلن يفسر لك السبب، سيقول لك أن الشرح أعجبه فحسب، إذا كيف نجيب عن هذا السؤال الذي سيحل هذه المشكلة؟

في عادة مقالات مشروع الإحياء أن أكتب مصادر وأدلة ما أقول، وأن يكون الأمر أكاديميا، لكن هذه المرة ليس عندي أدلة. 
أنا في الكلية أدرس تسع مواد كل عام ولكل مادة أقابل الكثير من المدرسين، رأيت الكثير من الأساليب والطرق، كلما حضرت لمدرس ظللت أحلل وألاحظ وأحاول إيجاد السبب الذي يجعلني أحب أو لا أحب الشرح. كل مرة أضع نظرية وأقول أنها السبب، ثم أحضر درسا آخر فيتضح أن هذا ليس السبب الحقيقي، لأن السبب المزعوم موجود ومع ذلك لا أحب الشرح مثلا، فأحدث نظريتي وأضع نظرية أخرى، استمررت هكذا لعام ونصف، أحلل وأضع تفسيرا محتملا إلى أن وصلت للنتيجة التي أضعها أمامكم الآن.
بعد أن وضعت نظريتي عن الشرح الجيد طقفت أبحث في النت عن مقالات تتحدث عن صفات الشرح الجيد وما الذي يجعل أسلوب الشرح الجيد، لمعرفة آراء السابقين لي في هذا الأمر، فقرأت عدة مقالات عن الموضوع، فوجدت أن نظريتي -والحمد لله- تتطابق مع ما يقولونه عن الشرح الجيد، مما جعلني أفخر بنفسي لأني وصلت لنتيجة وصل إليها خبراء مثل هؤلاء.
إذًا لنبدأ بالإجابة عن هذا السؤال الفيلسوفي:
كيف نصنع أسلوب شرح جيد؟
هذا السؤال الفيلسوفي الذي حاول الكثيرون الإجابة عنه، ما الذي يجعل طريقة معينة في إلقاء المعلومة جيدة والأخرى سيئة؟ 
طيب.. حتى لا يطول المقال ويزيد عن حده، سأقسم الموضوع إلى جزءين، في هذا الجزء لن أتحدث عن أسلوب الشرح ولكني سأتحدث عن نصائح عامة لتكون مدرسا جيدا بناء على استنتاجاتي، ثم في الجزء الثاني سأتحدث عن الطريقة التي تجعل أسلوب الشرح نفسه جيدا حسب استنتاجاتي وحسب كلام الخبراء الآخرين، إذًا فلنبدأ النصائح العامة.

1.قف أمام الطلاب ثابتا، لا تتحرك

حتى لا تشتت تركيز طلابك عن مضمون كلامك، يفضل أن تقف ثابتا أمام الطلاب وألا تتحرك، ربما بعض حركات اليد لا تضر ولكن لا تتحرك من مكانك لمكان آخر أو لا تتنقل ذهابا وإيابا في الحجرة، هذا التنقل يشتت تركيز الطلاب عما تقوله لأن المخ يستطيع التركيز مع شيء واحد فقط. يمكن أيضا أن نفسر ذلك عن طريق تأثير ماكجورك والذي أعرضه إليكم في النصيحة القادمة.

2.دع الطلاب يرون شفتيك وأنت تتكلم، ذلك يعينهم على حسن الإصغاء

بعض المعلمين يعطون ظهورهم للطلاب ناظرين للسبورة أو يشرحون وهم جالسون أو حتى يشرحون من خلف الحجرة فلا يرى الطلاب شفتيهم أثناء الكلام. طيب.. صدق أو لا تصدق، حركة الشفاه لها دور فيما يسمعه الطلاب! في الواقع عندما يرى الطلاب شفتيك يساعدهم ذلك على حسن الإصغاء إلى كلامك، جرب هذا الفيديو.



في هذا الفيديو الصوت واحد، لكنك إذا نظرت للنصف الأيمن ستسمع الصوت "فار"، أما إذا نظرت للنصف الأيسر ستسمع الصوت "بار". نفس الصوت، لكن حركة الشفاه تؤثر فيما تسمع، هذا يسمى تأثير مكجورك McGurk effect. إليك هذا المثال الآخر:

أؤكد لك أن الصوت هو نفسه من أول الفيديو إلى آخره! أظن الآن أنك فهمت لم حركة الشفاه تؤثر على الإصغاء الجيد، وعلمت أنك يجب أن تقف ثابتا أمام الطلاب وألا تتحرك ذهابا وإيابا.
سينتقد البعض قائلا: هل تقصد أن الطلاب سيسمعون كلمات خاطئة مثلا؟ كلا لا أقصد ذلك، لكن رؤية شفتيك سيساعدهم على حسن الإصغاء إليك وإبقاء التركيز معك، عن طريق إشغال حاستين -البصر والسمع- بدلا من إشغال حاسة واحدة.

(تعديل بتاريخ 19-8-2020) حسنا.. الأمر ليس متعلقا بالشفاه فحسب، بل بالوجه عامة. الوجه مهم في التواصل، البشر معتادون على النظر لوجوه من يكلمونهم لرؤية تعابيرهم وتفاعلاتهم، هذا يعيننا على حسن التواصل مع بعضنا. بدا ذلك جليا في زمن الحظر، حيث درسنا عن طريق النت والمحاضرات عن بعد، لم يكن الأساتذة يفتحون الكاميرا (إلا واحدة) وهذا أدى إلى انعدام التواصل الجيد بين الطلاب والمعلمين، وشعور الطلاب بالملل من ذلك الشرح، وعليه قل عدد الحضور من الطلاب يوما بعد يوم. هذا ما حدث في دفعتي.

3.تقبل الأسئلة من الطلاب

أعلم أنك لا تحب المقاطعة أثناء شرحك، ولكن وجود تفاعل وتواصل بينك وبين الطلاب أمر مهم في الحفاظ على تركيز طلابك معك. أضيف إلى هذه النصيحة ما يلي:

4.إذا سألك أحد الطلاب عن نقطة شرحتها من قبل فاعذره

رأيت أستاذة علم الأنسجة يوما تشرح شيئا ما، كررته مرارا، حتى إذا انتهت منه انتقلت لنقطة أخرى. بعد ذلك سألها أحد الطلاب عن ذلك الشيء الذي شرحته ووضحته من قبل.
ظننتها ستقول "هل كنت نائما؟" أو ربما تقول "يبدو أنك لم تركز." أو ربما "وضحت ذلك من قبل!" قبل أن تبدأ في إعادة شرح ما شرحته.. لكن رد فعلها كان مختلفا تماما؛ بدأت في الإجابة وإعادة الشرح دون أي من تلك التعليقات الجانبية التي ذكرتها بالأعلى! بدأت بالإجابة فحسب!
قدرت ذلك الموقف لها، لا أدري أفعلته قصدا أم سهوا، لكني بعد هذا الموقف صرت أسألها دون خوف، على عكس باقي الأساتذة الذين إذا سرحت عنهم دقيقة أخاف أن أسألهم فتكون الإجابة قيلت في تلك الدقيقة فيقول الأستاذ تعليقا غير لطيف.
كلنا نفقد تركيزنا في المحاضرة ولا ريب، إذا سألك أحد الطلاب عن نقطة شرحتها من قبل فاعذره وأعد الشرح دون أي من تلك التعليقات الجانبية. إذا كان الأمر طويلا ولا يتحمل الإعادة فاطلب منه أن يأتي بعد انتهاء الدرس لتعيد له ذلك دون أي من تلك اتعليقات الجانبية أيضا. هكذا لن يتحرج طالب من سؤالك إذا سرح أو نسي.

5.خذ الرأي المردود من طلابك عما تشرح

المرء -في أي مجال- لا يعرف قدر نفسه جيدا. دائما ما يقدر الإنسان نفسه أكبر مما هي عليها. إذا كنت تريد أن تعرف عيوبك وأن تعرف ما إذا كان بإمكانك التحسن فعليك أن تأخذ رأي الآخرين فيما تفعل. الرأي المردود أو كما يسميها البعض التغذية الراجعة Feedback من أهم خطوات النجاح في أي مجال.
في السابق ربما كان الأمر محرجا من الطالب أن يذكر للمعلم عيوبه، فكان ربما يطلب المعلم من الطلاب جميعا أن يكتبوا ورقة بحيث لا يدري المعلم من بالضبط كتبها ويرفع الحرج، لكن الآن الأمر مختلف. الآن توجد خدمات مثل Google forms أو survey monkey أو Microsoft forms والتي يمكن أن تصنع بها استبيانا أو استمارة وتعطيها للطلاب بحيث يعطونك رأيهم بشكل مجهول. سيساعدك هذا في معرفة نقاط ضعفك وتحسينها باستمرار، وفي ذات الوقت سترفع الحرج عن الطلاب الذين لا يجرءون على المصارحة.
مثال لاستبيان على خدمة نماذج Google لتقييم أستاذ معين
خلال حياتي كلها لم أر سوى معلمين اثنين اهتموا بالرأي المردود، أحدهم في الثانوية والآخر في الكلية، على الرغم من أن الكثير من المعلمين تمنيت أن أحظى بفرصة نصحهم بشأن شيء ما. أتمنى أن يزيد عدد المعلمين المهتمين بالرأي المردود مستقبلا.

كانت تلك مجرد النصائح العامة. في المقال القادم سأخبركم كيف يكون أسلوب الشرح جذابا وممتعا وآسرا لتركيز الطلاب. هذا المقال مجرد مقدمة للمقال الآتي، وأكاد أقول أن المقال الآتي فيه المحتوى كله. شكرا جزيلا.

التعليقات:

إرسال تعليق

هنا أنت الكاتب، قل ما تريد، كن مهذبا

يُشَغَّلُ من Blogger

تصميم الورشة مع تعديل وتطوير مني